فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{يا أيُّها الْمُدّثِّرُ (1)}
اختلف القراء في {المدثر} على نحو ما ذكرناه في {المزمل} [المزمل: 1]، وفي حرف أبيّ بن كعب {المدثر} ومعناه المتدثر بثيابه، و(الدثار)، ما يتغطى الإنسان به من الثياب، واختلف الناس لم ناداه ب {المدثر}، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال: «زملوني زملوني» نزلت {يا أيها المدثر}، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله. وروي أنه كان يدثر في قطيفة. وقال آخرون: معناه أيها النائم. وقال عكرمة معناه {يا أيها المدثر} للنبوة وأثقالها، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو{يا أيها المدثر} الآيات. وقال الزهري والجمهور هو{اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1] وهذا هو الأصح. وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك. وقوله تعالى: {قم فأنذر} بعثة عامة إلى جميع الخلق. قال قتادة، المعنى أنذر عذاب الله ووقائعه بالأمم، وقوله تعالى: {وربك فكبر} معناه عظمه بالعبادة وبث شرعه. وروي عن أبي هريرة أن بعض المؤمنين قال: بم نفتتح صلاتنا؟ فنزلت {وربك فكبر}. واختلف المتأولون في معنى قوله: {وثيابك فطهر}، فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض، وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر دنس الثوب، ومنه قول الشاعر غيلان بن سلمة الثقفي: الطويل:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من خزية أتقنع

وقال الآخر: الرجز:
لاهم إن عامر ابن جهم ** أوذم حجّا في ثياب دهم

أي دنسه. وقال ابن عباس والضحاك وغيره، المعنى لا تلبسها على غدرة ولا فجور، وقال ابن عباس: المعنى لا تلبسها من مكسب خبيث، وقال النخعي: المعنى طهرها من الذنوب، وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض، وقال طأوس: المعنى قصرها وشمرها، فذلك طهرة للثياب. وقرأ جمهور الناس {والرِّجز} بكسر الراء، وقرأ حفص عن عاصم والحسن ومجاهد وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والنخعي وابن وثاب وقتادة وابن أبي إسحاق والأعرج: و{الرُّجز} بضم الراء. فقيل هما بمعنى يراد بهما الأصنام والأوثان، وقيل هما لمعنيين الكسر للنتن والتقابض وفجور الكفار والضم لصنمين: (إساف ونائلة)، قاله قتادة. وقيل للأصنام عموما، قاله مجاهد وعكرمة والزهري. وقال ابن عباس {الرجز} السخط، فالمعنى اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، وقال الحسن: كل معصية رجز، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية بالأوثان.
واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر}. فقال ابن عباس وجماعة معه: لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه، فكأنه من قولهم، من إذا أعطى، قال الضحاك، وهذا خاص بالنبي عليه السلام، ومباح لأمته لكن لا أجر لهم فيه. قال مكي: وهذا معنى قوله تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله} [الروم: 39]، وهذا معنى أجنبي من معنى هذه السورة. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: {ولا تمنن تستكثر} لا تقل دعوت فلم أجب وروى قتادة أن المعنى لا تدل بعملك، ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف، وقال ابن زيد: معناه {ولا تمنن} على الناس بنبوءتك {تستكثر} بأجر أو بكسب تطلبه منهم. وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه {ولا تمنن} على الله بجدك {تستكثر} أعمالك ويقع لك بها إعجاب، فهذه كلها من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها. وقال مجاهد: معناه ولا تضعف {تستكثر} ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير، فهذه من قولهم حبل منين أي ضعيف، وفي قراءة ابن مسعود: {ولا تمنن أن تستكثر}، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {تستكثرْ} بجزم الراء، وذلك كأنه قال لا تستكثر، وقرأ الأعمش: {تستكثر} بنصب الراء، وذلك على تقدير أن مضمرة وضعف أبو حاتم الجزم، وقرأ ابن أبي عبلة: {ولا تمنن فتستكثرْ} بالفاء العاطفة والجزم، وقرأ أبو السمال: {ولا تمنّ} بنون واحدة مشددة. {ولربك فاصبر}، أي لوجه ربك وطلب رضاه كما تقول فعلت لله تعالى، والمعنى على الأدنى من الكفار وعلى العبادة وعن السهوات وعلى تكاليف النبوة، قال ابن زيد وعلى حرب الأحمر والأسود لقد حمل أمرا عظيما. و{الناقور} الذي ينفخ فيه وهو الصور، قاله ابن عباس وعكرمة. وقال خفاف بن ندبة: الوافر:
إذا ناقورهم يوما تبدى ** أجاب الناس من غرب وشرق

وهو فاعول من النقر، وقال أبو حباب:
أمنا زرارة بن أوفى فلما ** بلغ في الناقور خر ميتا.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ» ففزع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا». و{يوم عسير} معناه في عسر في الأمور الجارية على الكفار فوصف اليوم بالعسر لكونه ظرف زمان له. وكذلك تجيء صفته باليسر. وقرأ الحسن «عسر» بغير ياء. اهـ.

.قال القرطبي:

{يا أيُّها الْمُدّثِّرُ (1) قُمْ فأنْذِرْ (2)} فيه ست مسائل:
الأولى قوله تعالى: {يا أيها المدثر} أي يا ذا الذي قد تدثّر بثيابه، أي تغشّي بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما.
وقرأ أبيّ {الْمُتدثّر} على الأصل.
وقال مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحدِّث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث عن فترة الوحي قال في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فجُئِثْتُ منه فرقا، فرجعت فقلت زمّلوني زمّلوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر * قُمْ فأنذِرْ * وربّك فكبِّرْ * وثِيابك فطهِّرْ * والرجز فاهجر}» في رواية قبل أن تفرض الصلاة وهي الأوثان قال: «ثم تتابع الوحي» خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح.
قال مسلم: وحدّثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد ابن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعيّ قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أيُّ القرآن أنزل قبلُ؟ قال: {يا أيها المدثر} فقلت: أو (اقرأ).
فقال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبلُ؟ قال: {يا أيها المدثر} فقلت: أو (اقرأ) فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «جأورت بحِراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجْفةٌ شديدةٌ، فأتيت خديجة فقلت دثِّروني، فدثّروني فصبُّوا عليّ ماء، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر * قُمْ فأنذِرْ * وربّك فكبِّرْ * وثِيابك فطهِّرْ}» خرجه البخاريّ وقال فيه: «فأتيت خديجة فقلت دثِّروني وصُبُّوا عليّ ماء باردا، فدثّروني وصبُّوا عليّ ماء باردا فنزلت: {يا أيها المدثر * قُمْ فأنذِرْ * وربّك فكبِّرْ * وثِيابك فطهِّرْ * والرجز فاهجر * ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ}» ابن العربيّ: وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبيّ صلى الله عليه وسلم من عُقْبة بن ربيعة أمر، فرجع إلى منزله مغموما، فقلِق واضطجع، فنزلت: {يا أيها المدثر} وهذا باطل.
وقال القشيريّ أبو نصر: وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر، فوجِد من ذلك غمّا وحُمّ، فتدثّر بثيابه، فقال الله تعالى: {قُمْ فأنذِرْ} أي لا تفكر في قولهم، وبلغهم الرسالة.
وقيل: اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأميّة بن خلف والعاص بن وائل ومُطعِم بن عديّ وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم في الإخبار عنه؛ فمن قائل يقول مجنون، وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسمّوا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر؛ فقال الوليد: سمعت كلام ابن الأبرص، وأمية بن أبي الصّلْت، وما يشبه كلامُ محمدٍ كلام واحد منهما؛ فقالوا: كاهن.
فقال: الكاهن يصدُق ويكذِب وما كذب محمد قطّ؛ فقام آخر فقال: مجنون؛ فقال الوليد: المجنون يخنُق الناس وما خنق محمد قطّ.
وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة؛ فدخل عليه أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت.
فقال الوليد: مالي إلى ذلك حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلتُ: إنه ساحر.
شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة، ونزلت: {يا أيها المدثر}.
وقال عكرمة: معنى {يا أيها المدثر} أي المدّثر بالنبوّة وأثقالها.
ابن العربي: وهذا مجاز بعيد؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد.
وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل.
الثانية قوله تعالى: {يا أيها المدثر}: ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبّر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة (المزمل).
ومثله قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ إذ نام في المسجد: «قم أبا تراب» وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه؛ خرجه مسلم.
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق: «قم يا نوْمان» وقد تقدّم.
الثالثة قوله تعالى: {قُمْ فأنذِرْ} أي خوّف أهل مكة وحذِّرهم العذاب إن لم يُسلِموا.
وقيل: الإنذار هنا إعلامهم بنبوّته؛ لأنه مقدمة الرسالة.
وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد؛ لأنه المقصود بها.
وقال الفراء: قم فصلّ وأمر بالصلاة.
الرابعة قوله تعالى: {وربّك فكبِّرْ} أي سيّدك ومالكك ومصلح أمرك فعظّم، وصِفْه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد.
وفي حديث أنهم قالوا: بِم تُفتتح الصلاة؟ فنزلت: {وربّك فكبِّرْ} أي وصفْه بأنه أكبر.
قال ابن العربيّ: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دونه، ولا تتخذ وليّا غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه.
وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أُحد: اعل هُبل؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قولوا الله أعلى وأجّل» وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله: (الله أكبر) وحمل عليه لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد؛ منها قوله: «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» والشرع يقتضي بعرفه ما يقْتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشِّرك، وإعلانا باسمه في النُّسك، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسّفْك.
قلت: قد تقدّم في أول سورة (البقرة) أن هذا اللفظ «الله أكبر» هو المتعبد به في الصلاة، المنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي التفسير: أنه لما نزل قوله تعالى: {وربّك فكبِّرْ} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «الله أكبر» فكبّرت خديجة، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى؛ ذكره القشيريّ.
الخامسة الفاء في قوله تعالى: {وربّك فكبِّرْ} دخلت على معنى جواب الجزاء كما دلت في {فأنْذِرْ} أي قم فأنذر وقم فكبر ربك؛ قاله الزجاج.
وقال ابن جنّي: هو كقولك زيدا فاضرب؛ أي زيدا اضرب، فالفاء زئداة.
السادسة قوله تعالى: {وثِيابك فطهِّرْ} فيه ثمانية أقوال: أحدهما أن المراد بالثياب العمل.
الثاني القلب.
الثالث النفس.
الرابع الجسم.
الخامس الأهل.
السادس الخلق.
السابع الدين.
الثامن الثياب الملبوسات على الظاهر.
فمن ذهب إلى القول الأول قال: تأويل الآية وعملك فأصلح؛ قاله مجاهد وابن زيد.
وروى منصور عن أبي رزِين قال: يقول وعملك فأصلح؛ قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب؛ ونحوه عن السُّديّ.
ومنه قول الشاعر:
لا هُمّ إنّ عامر بن جهْمِ ** أوذم حجّا في ثِيابٍ دُسْمِ

ومنه ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُحشر المرءُ في ثوبيه اللذين مات عليهما» يعني عمله الصالح والطالح؛ ذكره المأورديّ.
ومن ذهب إلى القول الثاني قال: إن تأويل الآية وقلبك فطهِّر؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جُبير؛ دليله قول امرئ القيس:
فسُلِّي ثيابي من ثيابك تنْسُلِ

أي قلبي من قلبك.
قال المأوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما معناه وقلبك فطهّر من الإثم والمعاصي؛ قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني وقلبك فطهر من الغدر؛ أي لا تغدر فتكون دنس الثياب.
وهذا مرويّ عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفيّ:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجِر ** لبِستُ ولا مِن غدْرةٍ أتقنّعُ

ومن ذهب إلى القول الثالث قال: تأويل الآية ونفسك فطهر؛ أي من الذنوب.
والعرب تكني عن النفس بالثياب؛ قاله ابن عباس.
ومنه قول عنترة:
فشككْتُ بالرُّمْح الطّوِيلِ ثيابهُ ** ليس الكريمُ على القنا بُمحرّمِ

وقال امرؤ القيس:
فسُلِّي ثيابِي من ثيابِك تنْسُلِ

وقال:
ثِيابُ بني عوفٍ طهارى نِقيّةٌ ** وأوجُهُهُمْ بيضُ المسافِرِ غُرّانُ

أي أنفس بني عوف.
ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية وجسمك فطهر؛ أي عن المعاصي الظاهرة.
ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلا:
رموها بأثيْابٍ خِفافٍ فلا ترى ** لها شبها إلاّ النّعام المُنفّرا

أي ركبوها فرموها بأنفسهم.
ومن ذهب إلى القول الخامس قال: تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب؛ والعرب تسمى الأهل ثوبا ولباسا وإزارا؛ قال الله تعالى: {هُنّ لِباسٌ لّكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لّهُنّ} [البقرة: 187] المأورديّ: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما معناه ونساءك فطهر، باختيار المؤمنات العفائف.
الثاني الاستمتاع بهنّ في القبل دون الدبر، في الطهر لا في الحيض.
حكاه ابن بحر.
ومن ذهب إلى القول السادس قال: تأويل الآية وخلقك فحسِّن.
قاله الحسن والقُرظي؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه.
وقال الشاعر:
ويحْيى لا يُلامُ بسوء خُلْقٍ ** ويحْيى طاهِرُ الأثوابِ حُرُّ

أي حسن الأخلاق.
ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية ودينك فطهر.
وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال: «ورأيت الناس وعليهم ثياب، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجرّه».
قالوا: يا رسول الله فما أولت ذلك؟ قال: «الدِّين» وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق، قال الله تعالى: {وثِيابك فطهِّرْ} يريد مالك أنه كنى عن الثياب بالدين.
وقد روى عبد الله بن نافع عن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى: {وثِيابك فطهِّرْ} أي لا تلبسها على غدْرة؛ ومنه قول أبي كبشة:
ثِيابُ بني عوْفٍ طهارى نقِيّةٌ ** وأوجُهُهُمْ بِيضُ الْمسافِرِ غُرّانُ

يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم من الدناءات، ويعني بغرة وجوههم تنزيهم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما؛ قاله ابن العربي.
وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم؛ قاله عِكرمة.
ومنه قول الشاعر:
أوذم حجّا في ثيابٍ دُسْمِ

أي قد دنّسها بالمعاصي.
وقال النابغة:
رِقاقُ النِّعالِ طيِّبٌ حُجُزاتُهُمْ ** يُحيّوْن بالرّيْحانِ يوم السّباسِبِ

ومن ذهب إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدهما معناه وثيابك فأنقِ؛ ومنه قول امريء القيس:
ثيابُ بني عوْفٍ طهارى نقِيّةٌ

الثاني وثيابك فشمِّرْ وقصِّرْ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجرت على الأرض لم يُؤْمن أن يصيبها ما ينجسها؛ قاله الزجاج وطأوس.
الثالث {وثِيابك فطهِّرْ} من النجاسة بالماء؛ قاله محمد ابن سيرين وابن زيد والفقهاء.
الرابع لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام.
وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر.
ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتنأول معنيين: أحدهما تقصير الأذيال؛ لأنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى.
وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إِزْرةُ المؤمنِ إلى أنصاف ساقيه، لا جُناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار» فقد جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعّد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أذيالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم، وهذه حالة الكِبْر، وفائدة العُجْب، وأشدّ ما في الأمر أنهم يعصُون وينجسون ويُلْحِقون أنفسهم بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» ولفظ الصحيح: «من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة».
قال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شِقّي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لست ممن يصنعه خيلاء» فعمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي، واستثنى الصديق، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء، وليس ذلك لهم.
والمعنى الثاني غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها، صحيح فيها.
المهدويّ: وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب؛ قال ابن سيرين وابن زيد: لا تصلّ إلا في ثوب طاهر.
واحتج بها الشافعيّ على وجوب طهارة الثوب.
وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض، وكذلك طهارة البدن، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل.
وقد مضي هذا القول في سورة (براءة) مستوفى.
قوله تعالى: {والرجز فاهجر}
قال مجاهد وعكرمة: يعني الأوثان؛ دليله قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِن الأوثان} قاله ابن عباس وابن زيد.
وعن ابن عباس أيضا: والمأثم فاهجر؛ أي فاترك.
وكذا روى مُغيرة عن إبراهيم النّخعيّ قال: الرُّجز الإثم.
وقال قتادة: الرجز: إصاف ونائلة، صنمان كانا عند البيت.
وقيل: الرجز العذاب، على تقدير حذف المضاف؛ المعنى: وعمل الرجز فاهجر، أو العمل المؤدّي إلى العذاب.
وأصل الرجز العذاب، قال الله تعالى: {لئِن كشفْت عنّا الرجز لنُؤْمِننّ لك} [الأعراف: 134] وقال تعالى: {فأرْسلْنا عليْهِمْ رِجْزا مِّن السماء} [الأعراف: 162] فسّميت الأوثان رِجزا؛ لأنها تؤدي إلى العذاب.
وقراءة العامة {الرِّجْز} بكسر الراء.
وقرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم {والرُّجْز} بضم الراء وهما لغتان مثل الذِّكر والذُّكر.
وقال أبو العالية والربيع والكسائيّ: الرُّجز بالضم: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية.
وقال الكسائيّ أيضا: بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب.
وقال السّديّ: الرّجْز بنصب الراء: الوعيد:
{ولا تمْنُنْ تسْتكْثِرُ (6)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} فيه أحد عشر تأويلا؛ الأول لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوّة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير.
الثاني لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها؛ قاله ابن عباس وعِكرمة وقتادة.
قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته؛ وقاله مجاهد.
الثالث عن مجاهد أيضا: لا تضْعُفْ أن تستكثر من الخير؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا؛ ودليله قراءة ابن مسعود {ولا تمْنُنْ تسْتكْثْرِ مِن الْخيْرِ}.
الرابع عن مجاهد أيضا والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك.
قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك مِنّة من الله عليك؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته.
الخامس قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره.
السادس لا تمنن بالنبوّة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به.
السابع قال القرظيّ: لا تعط مالك مصانعة.
الثامن قال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك.
التاسع لا تقل دعوت فلم يستجب لي.
العاشر لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها.
الحادي عشر لا تفعل الخير لترائى به الناس.
الثانية هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال؛ يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته.
ويقال للعطية المِنّة؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا؛ ولهذا قال: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم» وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادّخار والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا؛ ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها.
وقال: «لو دعيت إلى كُراع لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت» ابن العربيّ: وكان يقبلها سُنّة ولا يستكثرها شِرعة، وإذا كان لا يعطِي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب؛ لأنها باب من أبواب المذلّة، وكذلك قول من قال: إن معناها لا تعطِي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وذلك في حيزه بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له: {ولا تمُدّنّ عيْنيْك إلى ما متّعْنا بِهِ أزْواجا مِّنْهُمْ زهْرة الحياة الدنيا لِنفْتِنهُمْ فِيهِ ورِزْقُ ربِّك خيْرٌ وأبقى}
[طه: 131] وذلك جائز لسائر الخلق؛ لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها.
وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح؛ فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
الثالثة قوله تعالى: {ولا تمْنُن} قراءة العامة بإظهار التضعيف.
وقرأ أبو السّمّال العدويّ وأشهب العُقيليّ والحسن {ولا تمُنّ} مدغمة مفتوحة.
{تسْتكْثرُ}: قراءة العامة بالرفع وهو في معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضا؛ أي لا تعط شيئا مقدّرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه.
وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء؛ لأنه ليس بجواب.
ويجوز أن يكون بدلا من {تمْنُنْ} كأنه قال: لا تستكثر.
وأنكره أبو حاتم وقال: لأن المنّ ليس بالاستكثار فيبدل منه.
ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضْد.
أو أن يعتبر حال الوقف.
وقرأ الأعمش ويحيى {تسْتكْثرِ} بالنصب، توهُّم لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر.
وقيل: هو بإضمار (أن) كقوله:
ألا أيُّهذا الزّاجِري أحْضُرُ الوغى

ويؤيده قراءة ابن مسعود {ولا تمْنُنْ أن تسْتكْثِر}.
قال الكسائيّ: فإذا حذف (أن) رفع، وكان المعنى واحدا.
وقد يكون المنّ بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول الثاني، ويعضُده قوله تعالى: {لا تُبْطِلواْ صدقاتِكُم بالمن والأذى} وقد يكون مرادا في هذه الآية.
والله أعلم.
قوله تعالى: {ولِربِّك فاصبر} أي ولسيّدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته.
وقال مجاهد: على ما أوذيت.
وقال ابن زيد: حُمِّلت أمرا عظيما؛ محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله.
وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله تعالى.
وقيل: فاصبر على البلوى؛ لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه.
وقيل: على أوامره ونواهيه.
وقيل: على فراق الأهل والأوطان.
قوله تعالى: {فإِذا نُقِر فِي الناقور}
إذا نفخ في الصور.
والناقور: فاعول من النقر؛ كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ ومنه قول امرئ القيس:
أخفِّضُه بالنّقْرِ لمّا علوتُهُ ** ويرْفعُ طرْفا غيْر خافٍ غضِيِض

وهم يقولون: نقّر باسم الرجل إذ دعاه مختصّا له بدعائه.
وقال مجاهد وغيره: هو كهيئة البوق، ويعني به النفخة الثانية.
وقيل: الأولى؛ لأنها أول الشدّة الهائلة العامة.
وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في (النمل) و(الأنعام) وفي كتاب (التذكرة)، والحمد لله.
وعن أبي حبّان قال: أمّنا زُرارةُ بن أوفى فلما بلغ {فإِذا نُقِر فِي الناقور} خرّ ميتا.
{فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ} أي فذلك اليوم يوم شديد {على الكافرين} أي على من كفر بالله وبأنبيائه صلى الله عليهم {غيْرُ يسِيرٍ} أي غير سهل ولا هيّن؛ وذلك أن عُقدهم لا تنحل إلا إلى عُقدة أشدّ منها، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى.
و{يوْمئِذٍ} نصب على تقدير فذلك يوم عسير يومئذ.
وقيل: جرّ بتقدير حرف جر، مجازه: فذلك في يومئذ.
وقيل: يجوز أن يكون رفعا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن. اهـ.